اختارنا لكمقالات

خالد مصطفى يكتب: أميرة اللغات

Advertisements

لكل الأجناس وعاء يحفظ تاريخهم وثقافتهم وهويتهم ومعتقداتهم فيا ترى ما هذا الوعاء؟ لا شك أن الوعاء الحافظ هو اللغة، فهي التي بها يتفاهم الأحياء بعضهم مع بعض، وبها يفهم الأحياءُ الأمواتَ الذين خَلَّفوا لهم تراثًا علميًّا وإنسانيًّا، فيقرؤون ما جادت به قرائحهم، وما أنارت به عقولُهم أزمانَهم، ثم امتدت أشعةُ شموسِهم لتغطي سماء المعاصرين.

لغتنا العربية هي خير وعاء فقد حفظت تراث العرب منذ العصر الجاهلي إلى الآن، وما زالت هي الرباط القوي والحبل المتين الذي يربط أبناء يعرب ويجعل الدول العربية على اختلاف مشاربِهِم في ثوب واحد؛ لأن أبناءها على لسان واحد، فهي اللغة الموحَّدة والموحِّدة، فهي كانت ولا تزال خط الدفاع الأول ضد أي مُحتل رام فرقتنا.

كانت هي الهوية التي ينبغي أن نحافظ عليها حتى لا نكون شجرةً بلا جذر، فنتخطّف ونموت بلا عذر، وما أصعب أن نموت ونحن أحياء! وما أبشع أن نستمع إلى نداءات خفية، أو صُراخاتٍ مدوية تنادي بأن يكون التعليم الجامعي وما دون الجامعي بلغة أجنبية! أليس في هذا فَقْدٌ للهُوِيَّة، وضياعٌ للغة الشعائر الدينية؟ إنها جسم القرآن الكريم.

فقد قال الله تعالى:” إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا”، فقد حملت الأوامر والنواهي، والأحكام، والأخبار، والفرائض، ورسمت لنا سمتًا يضيء إلى يوم الدين؛ فانظر كيف بيَّن الله جمالها في كتابه الكريم، فقد قال عز وجل: (كُلٌّ في فَلَكٍ) (يسبحون)، وهي عبارة تدل على معناها، فتُقرأ من اليمين كما تُقرأُ من اليسار هكذا:

ك ل ف  ي ف  ل ك،

فلك فى كل

فالفلك هو الدائرة التي ترسمها الشمس، وهو المدار الذي يسبح فيه الجِرمُ السماويّ.

ولم تكن تلك اللغة الجميلة لغة القرآن الكريم وحده، فهي لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس في الوطن العربي، وكُتِبَ بها الكثير من الأعمال الدينية اليهودية والفكرية في العصور الوسطى.

إننا لا نرفض تعلم اللغات الأجنبية بل نحث على ذلك، دعمًا لمسيرة التعريب ولكن نرجو أن يكون التعليم باللغة العربية، فجُلّ الأجناس تدرّس بلغة بلادها. بلاد الغرب أخذت عنَّا الحضارة وترجمت علومنا إلى لغاتها فكانت كالنحلة امتصت الرحيق فأخرجت منه عسلًا مصفًّى، أمَا آن الأوان أن نسترد بضاعتنا وما حدث فيها من تطور، ونقرأه بلغتنا؟ تلك اللغة التي هي لغة الجمال، التي قال عنها أمير الشعراء:

إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا   جعل الجمالَ وسرَّهُ في الضادِ

تلك اللغة هي أكثر لغات المجموعة السامية في عدد المتحدثين، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة من الوطن العربي وكثير من المناطق كالأحواز وتركيا وتشاد ومالي والسنغال وإريتريا.

تلك اللغة التي أثرت تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر في كثيرٍ من اللغات، كالتركية، والفارسية، والكردية، والأوردية، والماليزية، والألبانية، والإندونيسية، والسواحيل، والهوسا، وبعض اللغات الأوربية، كالإسبانية، والبرتغالية، والمالطية.

لغة بهذه القيمة، وهذه المكانة العالمية، هل تُهمل؟

لغة تحفظ هويتنا، ومكانتنا بين الأمم، أليس من الواجب الحفاظ عليها؟

لغة تحفظ دينَنَا وشعائرنا وشريعتنا، أتستحق أن تمرض ولا تجد الدواء أو المداوين؟

قال شاعر النيل:

فيا وَيْحَكُم أَبْلَى وَتَبْلَى مَحَاسِنِي   وَمِنكُم وإن عزَّ الدواءُ أُساتي

فلا تَكِـــــلوني للـــــزَّمَانِ فـــــــــإنَّنِي      أخاف عليكم أن تحينَ وفاتي

لماذا ينظر بعضنا إلى هذه اللغة البهية نظرةً دونيَّة؟

ولماذا تحاول شرذمة منا تهوينها أو تشويهها؟

إنني والغيُورين على هذه اللغة نرى ضرورة أن تحرص وسائل الإعلام العربية على استعمال اللغة العربية الصحيحة، والاهتمام بنقائها وسلامتها. وأن تمتدّ مساحة استخدامها عبر عديد من البرامج المتنوعة والمواد الدرامية وبرامج الحوار والمناقشات بالإضافة إلى المادة الإخبارية والسياسية. كما نرى ضرورة العمل على استعمال اللغة العربية في جميع مراحل التعليم، وتدريس جميع المقررات في الكليات الجامعية باللغة العربية، مع الاهتمام في الوقت نفسه بإتقان اللغات الأجنبية.

ومن الضروري أيضًا زيادة نسبة المحتوى الرقمي باللغة العربية على مواقع الشبكة الدولية (الإنترنت)، فإن القلب ينزف حين يرى تلك اللغة الهجين ولغة الفرانكو آراب، والجمع بين الأرقام والحروف الأجنبية في الكتابة الإلكترونية، إننا بحاجة إلى تبجيل لغتنا واستعمالها بدلًا من تفشي اللغات فعلينا أن نتصدى لظاهرة الثنائية اللغوية بالعمل على التقريب بين المستويات الفصيحة للغة ومستويات اللهجات. بهذا التقريب نجعل الفصحى لغةً للجميع فتعود إلى مكانتها الطبيعية، وتكون المحببة إلى أهليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى