اختارنا لكبورتريهمقالات

خالد مصطفى يكتب: في ذكرى شوقي ضيف موسوعة العصر الحديث

Advertisements

تمرُّ السنون، وعهدُنا بها أنها تُنْسي، ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ أن تنسيَ من ترك نبضاتِ قلبه وبناتِ أفكاره بيننا، إننا إنْ نسينا فلن ننسى العالِم الموسعي خالد الذِّكر الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، الذي يَحار العقلُ في تناول شخصيته والحديثِ عنه، فهل أتحدث عنه أديبًا مفوًّهًا، أو مؤرخًا جهبذًا، أو مُفسِّرًا مجيدًا للقرآن الكريم، أو محققًا مبدعًا، أو نحويًّا عبقريًّا، أو محاضرًا فذًّا، أو مجمعيًّا رائدًا؟

إننا مع شخصية متعددة الجوانب، غزيرة المواهب، لا يستطيع المرء أن يلم بكل أطرافها وأعماقها في مقال واحد.

إن العالِمَ الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف – رحمه الله – محيطٌ لا تُسْبَرُ أغوارُه، وبحرُ عِلمٍ لا نستطيع أن نستخرج كلَّ جواهره ولآلئه، وهرمٌ عصري يعجز من يحاولُ بلوغَ قمته، ومهما وصفت فهل تؤثِّر في البحر قطرة؟ وهل تكشف عن بساتينِ عِلْمِه زهرة؟

إن عالمَنا الذي وُلِدَ بمحافظة دمياط سنة 1910م، حصل على ليسانس الآداب سنة 1935م، ثم نال درجة الماجستير سنة ١٩٣٩م، ثم حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الممتازة سنة1942م، ولم يخلُد إلى الراحة مكتفيًا بما وصل إليه، لكنه واصل العمل الجاد والمثمر، فقد عُيِّن في سنة تخرجه نفسِها محررًا بمجمع اللغة العربية، ولم يكن قد مَرَّ على العمل الفعلي بالمجمع سوى عام واحد، ثم عُيِّن سنة 1936م معيدًا بكلية الآداب، وظل يترقَّى بها إلى أن تولى رئاسة قِسم اللغة العربية سنة 1968م، وظل طوال حياته عونًا ومعوانًا لهذا القسم حتى صار أستاذًا غير متفرغ إلى أن وافته المنيةُ في العاشر من مارس سنة 2005م.

وقد اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1976م، ثم انتُخب أمينًا عامًّا له سنة 1988م، ثم نائبًا للرئيس سنة 1992م، ثم رئيسًا له سنة 1996م، حتى وافته المنيَّة.

لم تشغله المناصبُ الإداريةُ عن جُهدِهِ العلمي وحبِّه للغة العربية، فأنجبت أنامله عدة أبحاث ألقاها في محاضرات علنية بالمجمع ، وقد سجل تاريخ المجمع في كتابٍ بعنوان “مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا”.

إن مؤلفاتِه الثريَّةَ وشخصيتَه الذكية لم ترشحه فقط لعضوية المجمع، وإنما رشحته ليكون عضوًا في المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب، وعضوًا بالمجمع العلمي المصري، وعضوَ شرفٍ في مجمع الأردن، ومجمع العراق والجمعية الجغرافية. بل ورشحه مجمع اللغة العربية لنيل جائزة نوبل.

وقد حصل على عدة دروع، ونال جوائزَ عدةً، منها:

  • جائزةُ الدولة التقديريةُ في الآداب سنة 1979م.
  • جائزةُ الملك فيصل العالميةُ في الأدب العربي سنة 1983م.
  • جائزة مبارك (النيل) في الآداب سنة 2003م، وقد تنبأت بفوزه بهذه الجائزة قبل أن يفوز بها في قصيدة لي بعنوان “شوقي شمسٌ لا تغيب” قلتُ فيها:
ووسامُ مُباركِ آتيكم
سيقولُ وفي زهوٍ عنكم
هَرَمٌ مصريٌّ عصريٌّ
  خَجِلًا من غَيْبِ الإتْيانِ
من بعدِ مرارَةِ كِتْمانِ
موسوعةُ كُلِّ الأزمانِ

ولجهده العظيم في نشر اللغة العربية في تآليفه المتنوعة وتحقيقاته الرائعة لُقِّب بأمين المعارف العربية، وعميد الثقافة العربية، فقد كان واسطةَ العِقد بين القديم والحديث، ممثِّلًا الثقافةَ العربيةَ الناضجة؛ فلأنه كان عالمًا موسوعيًّا لم تنكمش مؤلَّفاتُه في أحد فروع اللغة أو تنغلقْ عليه، وإنما تمددت وتفتحت لتشملَ جُلَّ الفروع، فكان كالنحلة لا يكتفي برحيق زهرة واحدة، وإنما طوَّف حول كل الأزهار فـجاء برحيق متنوِّع، فمن زهرة الأدب العربيّ إلى الغناء في العصر الأُمويّ، ورصدِ فُكاهة المصريّ، وتحقيق التراث كتحقيقه كتابَ “الرد على النحاة” لابن مضاء القرطبي، ومن زهرة النحو وتيسيره إلى زهرة القرآن وتفسيره، وقد ألَّف في النقد والبلاغة العربية والسيرة الذاتية التي سجَّل فيها شهادتَه على العصر، مع بيان رحلتِهِ ومعالمِها في كتابٍ من جزأين بعنوان “معي”.

  • إن مؤلفاتِهِ التي فاقت خمسين تشبه المعهدَ العلمي الذي فيه أكثرُ من خمسين أستاذًا، وعلى الرغم من تعدُّد تلك المؤلَّفات وتنوعِها تجد أن أسلوبه فيها جميعًا يمتاز بالرقة والدقة، فهو أسلوب قريب من الفهم بعيدٌ عن الغموض والتعقيد، يجمع بين القديم والحديث، فيأخذ من القديم أصالتَهُ ورصانتَهُ، ومن الحديث سهولتَهُ وطرافتَه، فأسلوبه السهل الممتنع جعل تلك المؤلفات التي وُلِدت في أحضان الأراضي المصرية تذيع وتنتشر في البلاد العربية كافة، بل تُرجمت بعض مؤلفاته إلى لغات شتى ككتاب “عالمية الإسلام”.

والباحث في مؤلَّفاته – رحمه الله – يجد أنه اتبع فيها منهجين اثنين، أولُهما: المنهج التأريخي الذي كان يتتبع من خلاله النقطة التي يدرسها ويستقصيها حتى نهايتها.

وثانيهما: المنهج التحليلي، فمن خلاله يقف عند النقطة ويحلِّلُها بتفصيلاتها كافةً ليُبَيِّنَ ما فيها من قوة أو ضعف، وما بها من صواب أو خطأ.

  • وإن المتأمل في مؤلفات شيخنا وأستاذنا الدكتور شوقي ضيف يجد له نظرياتٍ وآراءً تكاد تتباين مع مذاهب بني عصره والسابقين عليه، ولكن بعد تدقيق وتحقيق تأخذ هذه النظريات بلُبِّه وقلبه فيقف أمامها متعجبًا سائلًا نفسَهُ إنها آراءٌ سديدة، فكيف كنت غافلًا عنها؟ ومن هذه النظريات:
  • رأيه في المغازي، فالمعروف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت كل غزواته حربًا بالسيوف والرماح لنشر الدين القويم، ولكنَّ أستاذنا الراحل خالف كثيرًا من كُتَّاب السيرة النبوية في هذه النقطة، فهم سمَّوا كل ما قام به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – من مسيراتٍ لعقد معاهداتٍ بينه وبين بعض القبائل المقيمة بين مكة والمدينة، سَمَّوها غزوات، وأستاذنا قال إن كثيرًا من هذه المسيرات لم تكن غزواتٍ بالمعنى المقصود، فقد كانت مسيراتٍ سلميةً لم يكن فيها حربٌ ولا قتال.
  • ومن نظرياته أيضًا أنه رأى ثمة خطرًا في ربط القرآن الكريم بالنظريات والمكتشفات العلمية؛ فذلك يُخرجُه عن هدفه وتوجُّهِه الأساسي، لاسيما وأن حقائق العلوم قد تتغير من عصر إلى عصر. صحيح أن من الممكن توجيهَ بعضِ آيات القرآن مع معطيات العلوم الحديثة عن حقائق الكون، غيرَ أنه لا ينبغي التطرفُ في هذا التوجُّه.
  • ومن نظرياته أيضًا معارضتُهُ أستاذَه الدكتور طه حسين الذي كان يرى أن الكثرةَ المطلقةَ في الشعر الجاهلي ليست من الجاهلية في شيء، وأكثره مُنْتَحَلٌ بعد ظهور الإسلام؛ فقد أثبت شوقي ضيف أن للجاهليين أشعارَهم الصحيحة التي أحاطها الأسلافُ بسياج مُحْكَم. وكانت هذه نقطةَ انطلاقِهِ، وخاصة بعد تشجيع د/ طه حسين بنفسه له، فقد حَثَّ الصِّحافيين أن يكتبوا عن كِتاب شوقي ضيف الذي يعارض فيه رأيه – فألف عشَرة مجلداتٍ في تاريخ الأدب للأمة العربية، في العراق، وإمارات الخليج، وعُمان، وحضرموت، ونجد، واليمن، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، وموريتانيا، والسودان، فجعل لكل بلدٍ تاريخًا أدبيًّا خاصًّا، بعد أنْ كان كثيرٌ من هذا التاريخ مجهولًا. فإن كان بروكلمان قد عُني ببعض التراث العربي الأدبي والعلمي والفلسفي، فلم يُعْنَ ببحث الظواهر الأدبية وشخصيات الأدباء بحثًا تاريخيًّا نقديًّا تحليليًّا، فقد شغلته موادُّ التراث العربي الكثيرةُ، أما الدكتور شوقي ضيف فجمع هذا الأدب وسَبَر أغوارَه، ووثَّق لألفٍ وخمسمئة عامٍ من الأدب فجاءت مجلداتُه العَشَرةُ موسوعةً عظمى لا تَقدِرُ على القيام بها مؤسسةٌ علمية بمفردها.

إنَّ عالِمَنا الموسوعيَّ كان ناقدًا رائعًا، فقد وقف وقفاتٍ تحليليةً مع شعر ابن زيدون، والبارودي، وشوقي، والعقاد، وكان له آراءٌ جريئة، فقد رأى أن الأندلسيين تفوقوا على أهل المشرق في شعر الغزل ووصف الطبيعة، بل رأى أن جذوة شعرهم الغزلي توقَّدَت فامتدت إلى الأدب الإسباني والأدب الفرنسي، وكل الآداب الأوربية.

وخير ختامٍ لحديثي عن هذا العالِم الموسوعي أن أذكر بعض أقوال أهل الثقافة عنه، ومن تلك الأقوال:

  • حينما كان البابا شنودة في ملتقى القُرضابية الليبية مع نخبة من العلماء يحتفون بفوز أستاذِنا الدكتور شوقي ضيف بدرع الملتقى، قال عنه:

نحن نقف أمامه وأمام علمه الغزير في خشوع، فلهذا الرجل مجالاتٌ عديدة في اللغة والأدب، قد تبحَّرَ فيها، وجمع اللغة والأدب في بحره، وإننا نقول عنه في هذا المجال، كما قال الشاعر:

ليس على الله بمستنكر                     أن يجمع العالَم في واحدِ

  • وقال عنه الأستاذ الدكتور نصر فريد واصل: إن الدكتور شوقي ضيف بعلمه الدنيوي وبهذا الجمع في مجال تخصصه الدقيق في اللغة العربية وآدابها، انطلق من خلال هذا العِلم إلى جميع المعارف الإنسانية وتواصل معها ليحقق من خلال ذلك فقه الدين.
  • وقال عنه الأستاذ حسن عبد الله القرشي:
مرحبًا يا منارة الأدب العا
مرحبًا جاحِظَ الثقافات سَحْبا
هو هذا شوقي يطل على الكو
يا مثالَ الأخلاقِ في كل حينٍ
  لي ومَنْ عاش شامخًا لن يلينا
نَ الخَطَاباتِ، والحُسَيْنَ بنَ سينا
نِ كشمس تجلو الديار فُتونا
يتباهى بك الرفاق سنينا

رحم الله عالمَنا وشيخَنا رحمةً واسعةً، فقد كان موسوعيًّا تتنوَّع مؤلَّفاتُه بالتنوَّع الزمني والجغرافي والموضوعي في مجالات اللغة، والأدب، والدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى